اختراع النوبة
وليام آدمز
ترجمة أسامة عبدالرحمن النور
يمكن القول بأن الجغرافيا، جزئياً مكتشفة وجزئياً مخترعة. كل منطقة في كوكبنا الأرضي من الممكن تحديدها، موضوعياً، بتركيب فريد للجبال والسهول والأنهار وغيرها من المظاهر الطبوغرافية. إلا أن الجغرافيا، مثلها مثل كافة حقول المعرفة الإنسانية الأخرى، ليست هي بحال موضوعية بصورة مطلقة. كل منطقة مأهولة هي في الوقت نفسه منظر طبيعي للعقل، حيث يمكن أن تظهر جد مختلفة بالنسبة لسكانها من جانب وللدخلاء من جانب آخر. بالنسبة للسكان فإن لها جمالها وميزاتها وألفتها؛ إنها جزء من تعريف الذات، أو بكلمات أخرى "نحن". للغرباء فإن مناشدة جاذبيتها، إذا ما كانت هناك أية جاذبية، تكمن في عدم ألفتها؛ إنها عادة جزء من تعريف الآخر، أو "هم".
الشئ نفسه يصدق بالنسبة للتاريخ. انه يبدأ، نظرياً، بسجل موضوعي للأحداث، إلا أنَّ ذلك السجل يتم الرجوع إليه عبر عيون الملاحظين من البشر المدونين له، ويصبح هو الآخر جزءاً من تعريف الذات أو اللا-ذات. في هذه الصيرورة يصبح التاريخ إلى درجة ما أسطورة وإلى حد ما دعاية. مرة ثانية يمكن أن يظهر التاريخ مختلفاً للغاية بالنسبة لأولئك الذين أسهم أسلافهم فيه أم لم يسهموا.
تلك الاعتبارات تنطبق على الجغرافيا، والتاريخ، وعلى أهل النوبة. قدر كبير من معرفتنا للمنطقة جاء عن طريق ملاحظات الغرباء وتفسيراتهم، والذين من بينهم الكتاب المصريين والعبرانيين القدماء، والمؤرخين والجغرافيين اليونان والرومان، واللغويين المحدثين الذين يترجمون أعمال أولئك الكتاب القدماء ويفسرونها، وعلماء الآثار الذين يكتشفون البقايا الأثرية للنوبيين أنفسهم ويفسرونها. أعطى لنا أولئك الملاحظون والمفسرون المختلفون سلسلة من التصورات المختلفة والمتناقضة جزئياً عن النوبة وأهلها، وهى تصورات يحمل كل منظور منها ذاتيته. هناك أيضاً، على الأقل بصورة أولية، منظور نوبي محلى أصيل للنوبة يحتوى تحيزاته الخاصة. بعض تلك التصورات وتحيزاتها ستتم مناقشتها بإيجاز في الصفحات التالية.
منظور المصريين القدماء للنوبة
هناك نزعة شائعة لدى الناس لقياس أنفسهم بمواجهة "الآخر"، نوع من القياس المعياري يحدد به الفرد تفوقه أو دونيته. بالنسبة لقدماء المصريين، فإن المقياس المعياري الرئيس تمثل في النوبيين، الذين جسدوا التوحش في مواجهة المدنية المصرية. المصطلح المكرر بلا نهاية "كوش اللعينة" كان له لدى المصريين المضمون نفسه لمصطلح "أفريقيا المظلمة" لدى الأوربيين والأمريكيين في القرن التاسع عشر. مع ذلك لم يكن هناك، بقدر ما نستطيع القول، أي بعد عنصري للإجحاف المصري. لم يكن النوبيون أدنى لكونهم سودا، لكن ببساطة لكونهم لم يكونوا مصريين. في الواقع اختفي الإجحاف المصري خلال المملكة المصرية الحديثة، عندما أصبح النوبيون "مصريين"، بمعنى أنهم تمصروا ثقافياً.
منظور علماء الدراسات المصرية القديمة للنوبة
المحزن حقاً هو حقيقة أن سلوك المصريين القدماء قد تم تبنيه كلياً من جانب علماء الدراسات المصرية القديمة المبكرين، والذين نظروا، تحت سحر النصوص الهيروغليفية التى ترجموها، لمدنية كوش بوصفها مجرد تقليد شاحب ومتدني للمدنية المصرية وبالتالي لا تستحق دراستها باستقلال. إضافة فإنهم ذهبوا إلى أبعد من المصريين القدماء ليثبتوا تخلف النوبة وتاريخها، مثل بادج وريزنر الذين عجزا عن رؤية الثقافة النوبية خارج منظور كونها مجرد مدنية مصرية مزيفة، بمصطلحات عنصرية.
أصبح سلوك كل من المصريين القدماء وعلماء الدراسات المصرية القديمة، بطرق مختلفة، سبباً جوهرياً للاستعمار وتبريراً له. لم ينتاب المصريون القدماء شك مطلقاً في كونهم يمتلكون حقاً إلهياً مقدساً لإخضاع جيرانهم الجنوبيين وفرض سيطرتهم عليهم، كما وأن معظم علماء الدراسات المصرية القديمة لم ينتابهم شك في أن دراسة النوبة وثقافتها تمثل جزءاً أصيلاً من الدراسات المصرية القديمة. في الوقت الذى يصبح فيه علماء الدراسات المصرية القديمة أكثر تقديراً لتفرد المدنية النوبية مقارنة بما كانوا عليه في السابق، فإنَّ النزعة للنظر للنوبة بوصفها منطقة خاصة "بهم" لا زالت قوية فيما يبدو كالسابق.
المنظور الإغريقى الرومانى للنوبة
في الجانب المعاكس للمنظور المصري كانت هناك نزعة الإعجاب الرومانطيقية في أعمال الكتاب الإغريق والرومان، بداية بهومر الذى كان "الإثيوبيون" في رؤيته رجال مستقيمون ومحبوبون من قبل الآلهة. إعجاب مماثل وجد انعكاسا له في الوصف الرومانطيقى الذى قدمه كل من هيرودوت وسترابو لمروى، وفي الغرام "الإثيوبي" الشائع الذى ميز أواخر العصر الكلاسيكي. يمكننا أن نجد هنا نزعة أخرى طويلة الأمد للفكر الإنساني "منظور لعالم أقل تعقيداً وأكثر نقاءً" غير ملوث بتعقيدات "العالم الحديث"وإحباطاته. الناس الذين تمَّ تصورهم كانوا بالتالي قياساً معيارياً نقيس عبرهم لا تفوقنا وإنما سقوطنا من حالة نقاء أصيلة. نجد هذه الفكرة معبر عنها منذ وقت مبكر في أسطورة جنة عدن وتفرعاتها المختلفة، وفي وقت لاحق في "المتوحش النبيل" العزيز للغاية لتصور روسو وغيره من مفكري التنوير. نشأ المنظور الإغريقي الروماني، شأنه شأن المنظور المصري القديم، بفعل حاجة الناظر الأيديولوجية أكثر منها محاولة لفهم حقائق الحياة النوبية.
منظور القوميين السود للنوبة
مع أن المنظورين المصرى القديم والإغريقى للنوبة كانا أُحاديان، لكنهما لم يتأسسا على قاعدة الشعور بالتفوق العنصرى أو الدونية كما نفهم العنصرية اليوم. كان سنودين على حق عندما افترض أن لون البشرة لم تترتب عليه بالنسبة للقدماء أية أبعاد أكثر مما يترتب على لون الشعر بالنسبة لنا اليوم، مؤشراً للقدرة الإنسانية. في الماضى القريب برزت مدرسة وسط الباحثين الأفارقة ووسط الأفارقة الأمريكيين الذين يميلون إلى تركيب نموذج عنصرى معلن للتاريخ الأفريقى تكون وفقه كل الإنجازات الرئيسة في القارة بفضل أناس يتم التعرف عليهم بأنهم سوداً, يمثل هذا المنطور رد فعل على التفسيرات غير المناسبة للمؤرخين الأوربيين والأمريكيين، محاولة للتحارب بين العنصرية البيضاء والعنصرية السوداء.
وفق منظور القوميين السود، كان أهل أفريقيا إلى الجنوب من الصحراء هم أصل معظم مؤسسات المدنية الراقية، والتى انتقلت من ثم إلى الآخرين- السكان غير السود في أوربا وآسيا. وطالما أن النوبيين هم أول أفارقة سود مشهودون في تاريخياً، فإنه من غير المستغرب أن تقوم النوبة بدور مفتاحي رمزي في النموذج التاريخي المنطلق من نزعة المركزة الأفريقية، "أم الدنيا" كما وصفها لى واحد من دعاة هذه المدرسة. هكذا ينال النوبيون الدور الأسطوري بوصفهم الأبطال المانحين للثقافة. دعماً لهذا المنظور يتم الرجوع لأعمال هيرودوت وهومر بحسبانها أعمال تاريخية موثوقة في حين يتم تجاوز النصوص المصرية وإهمالها.
منظور علماء الدراسات النوبية للنوبة
استقطبت حملة إنقاذ آثار النوبة في الستينيات من القرن الماضى إلى النوبة للمرة الأولى مجموعات كبيرة من الباحثين المتحررين من خلفية الدراسات المصرية القديمة والدراسات الكلاسيكية، أناس يمكنهم اعتماد تناول نظرى في دراسة التاريخ النوبي دونما تحيزات أو رؤى مسبقة موروثة. بفضل أعمال هؤلاء الباحثين وتلامذتهم بدأ في البروز تدريجياً فرع معرفي معترف به "الدراسات النوبية" يشدد على دراسة النوبة من أجل ذاتها أكثر من كونها ملحق للعالم المصري أو الكلاسيكي. حاول علماء الدراسات النوبية رسم صورة للنوبة بوصفها مكاناً مثيراً بحقه الذاتي. لكن منظورهم، مع ذلك، لا يخلو من الأيدولوجيا، ذلك أنه يرن بقدر من الشعور القومي الثقافي "النوبة للنوبيين"، شعار أصبح صيحة تجمع علماء الدراسات النوبية. قطعاً فإن الخاصة الثقافية من هذا النوع تجد جذورها في المفهوم الألماني Geisteswissenschaft الذى شدد على التفرد وعلى الروح المتفردة لكل أمة، ومن ثم قد لا تكون مفاجأة أن العدد الأكبر من علماء الدراسات النوبية موجودون اليوم في ألمانيا.
منظور النوبيين للنوبة
التدوين التاريخي بهذه الصورة ما كان أبداً حرفياً تقليداً نوبياً. مع ذلك، تمَّ تسجيل تحدارين شعبيين محليين للتاريخ النوبي؛ الأول عن طريق بوركهاردت قريباً من بدايات القرن التاسع عشر، والثانى عن طريق ماكمايكل قريباً من بدايات القرن العشرين. السمة اللافتة للإنتباه للنصين أنهما، مثل العهد القديم، تدمجان شظايا تاريخ قابل للإثبات مع تقاليد محلية للأنساب لا علاقة لها بالتاريخ بمفهومه العادى. ليس الهم في ربط النوبيين الحاليين بالأمجاد الثقافية الماضية (رغم أن هذا لا يجوز أهماله كلياً) بقدر ما هو تثبيت هويتهم عرباً، وأحفاداً لصحابة النبى محمد (صلعم). مكانة النوبيين في التاريخ تعتمد بالتإلى على سلاسل دموية أكثر منها إنجازات- سمة خاصة للحساب الاجتماعي والتاريخي للشرق الأوسط منذ أزمان مبكرة.
هل يصمد النوبيون الحقيقيون؟
النوبيون بوصفهم مصريبن دونيين؛ النوبيون بوصفهم متوحشين نبلاء؛ النوبيون بوصفهم أصل المدنية؛ النوبيون بوصفهم متفردين ثقافياً؛ النوبيون بوصفهم عرباً؛ تلك هى الخيارات المقدمة لنا من جانب النماذج المختلفة لتاريخهم. واضح أنه لا يمكن الموائمة بينها في نموذج تاريخي واحد، ذلك أنها جزئياً متناقضة. كيف لنا إذن الإختيار من بينهاـ وهل نستطيع؟
لا بدَّ وأن يكون واضحاً، مما سقناه أعلاه، ليس أكثر سهولة "موضعة" النوبيين اليوم بصورة أفضل مما كان عليه الأمر على أيام الفراعنة والإغريق. لا زال هناك من بيننا من يصمد، رمزياً، كجزء من تعريف الذات أو الآخر؛ مثل هؤلاء الأفراد قد لا يزالون يشعرون بحاجة للإعتقاد في النوبيين بوصفهم مصريين دونيين أو المؤصلين للمدنية أو بوصفهم عرباً. هذا الاعتراف بالذاتية الحيوية هو ما أدى إلى نشوء المدرسة التاريخية "مابعد الحداثة" التى أصبحت مودة العصر، والتى تقول بعدم وجود الحقيقة الموضوعية، وأن كل النماذج التاريخية صحيحة بالمستوى نفسه وقابلة للدفاع عنها.
ليس من فرد يمتلك قناعة بوجهة نظر كهذه أن يسمى نفسه عالماً، أو أن يفترض أنه يمكن وجود شئ مثل العلم الاجتماعي أو التاريخي. لكن يظل هناك العديد من الأفراد، بما فيهم شخصى، يستمرون في الإعتقاد في إمكانية وجود علم تاريخي. بالنسبة لنا لا يجسد النوبيون لا الذات ولا الآخر، لكن فقط رفقاء من بنى الإنسان الذين مثلهم، مثلنا كلنا، لا بدَّ وقد مروا بنوع من التاريخ القابل للكشف عنه. كيف، إذن، يمكن اكتشافه، دون التراجع للذاتية؟
قبل ستمائة عام مضت، واجه العلامة العظيم ابن خلدون المأزق نفسه. وجد نفسه مواجهاً بروايات تاريخية متشابكة ومتناقضة، فاكتشف أن الإختبارات العادية للموثوقية لا تقدم أساساً لإتخاذ قرار حولها. كل تقليد كان مدعوماً بسلسلة فرعية ترجع اصولها إلى مصدر يدعى بأنه موثوق.
الحل الذى طرحه ابن خلدون كان، بالنسبة لزمانه، راديكالياً؛ بحيث أنه لم يؤت ثماره إلا بعد إنقضاء خمسة قرون لاحقة. ما اقترحه، كان بمثابة علم مقارن طبيعي للإنسان. دعونا، هكذا افترض في مقدمته، نترك جانباً نقد المصادر التاريخية ونعود لدراستنا للعادات، والمجتمع، وثقافة الناس الأحياء فعلياً. عندما ندرسها بما يكفي سيمكننا أن نشكل فهماً لخصائص وآفاق السلوك الإنساني: تلك المشتركة بين كافة البشر، وأيضاً المشتركة للناس في لحظات محددة من التطور التاريخي. (لم يتحدث عن "التطور الاجتماعي" بكلمات كثيرة، لكن المفهوم محتوى بوضوح في تناوله). بإقتناء هذا الفهم، يمكننا من ثمَّ استخدامه كحجر إرتكاز نختبر عن طريقه الروايات التاريخية المختلفة.
كيف تتوافق سلوكيات الماضى وأحداثه المسجلة مع ما يحدث بانتظام في الحاضر؟ يرى ابن خلدون أن السرد التاريخي الأكثر موثوقية هو ذلك الذى يتسبب في أقل دهشة في حالة إذا ما ربط بالحاضر. وجهة النظر هذه يمكن مقارنتها بالإتساقية- المقبولة الآن بشكل شمولي- لدى الجيولوجيين، الذين يصرون على أن الأحداث الجيولوجية للماضى لا يجوز نسبتها للعمليات (مثل الطوفان التوراتي) التى لا تحدث في الوقت الحاضر.
أود أن اعتقد بأن ما افترضه ابن خلدون هو شئ قريب جداً مما أنجزته الأنثروبولوجيا الحديثة، أو على الأقل ما تحاول أن تنجزه، وأن هذا بالتأكيد دليلنا الأمثل للوصول إلى رؤية موثوقة للتاريخ. إنطلاقاً من وجهة النظر هذه، أجد أن المصريين، وعلماء الدراسات المصرية القديمة، والإغريق، والقوميين السود يطرحون بالقدر نفسه رؤية للتاريخ النوبي غير مقبولة، ذلك أنهم يلجأون إلى تلميحات عن الثقافة الفطرية أو التفوق العرقي أو الدونية التى لا يمكن التأكيد عليها عن طريق أية ملاحظة للعالم الموجود حالياً. (لدىَّ صعوبات أقل مع سلاسل النسب النوبية، لكن فقط مع الأخذ في الحسبان أن "سلاسل النسب" هى في الواقع سلاسل فرعية، تعرف في كل جيل سلف واحد فقط من بين مئات. هناك إحتمالاً القليلون منا الذين لا يمكنهم إدعاء هوية عربية، إذا ما كان سلف واحد هو كل ما نحتاجه).
يبقى هناك منظور الدراسات النوبية- وهو الذى أسهمت بنفسى فيه بقدر معتبر، عن طريق كتابى "النوبة المعبر إلى أفريقيا". استطيع أن اقول بكل إطمئنان أن هذا المنظور يطرح رؤية للتاريخ موثوقة من حيث مصطلحات الأنثروبولوجيا في الخمسينيات، والتى كان موضوعها الرئيس (على الأقل في أمريكا) هو الكشف عن المتفرد geist ووصفه (الترتيب كما نقول) في كل ثقافة. قطعاً فإنَّ قراءة متعمقة سوف تظهر ان "النوبة المعبر إلى أفريقيا" ليس تاريخاً مترابطاً كسلسلة اثنوغرافية يكون فيها كل طور متتالي للتاريخ النوبي موصوفاً بمصطلحات قيمه ومصالحه السائدة. الأمر نفسه يصدق بالنسبة للتقنية التفسيرية كما استخدمت من قبل العديدين من اثنوغرافي منتصف القرن، واعتقد، انها تتلائم مع ما نصح به ابن خلدون.
النوبة المعبر إلى أفريقيا، كما ذكرنى بعض النقاد، أقل موثوقية من حيث منطلقات أنثروبولوجيا الستينيات والسبعينيات، رغم أنه كتب في تلك الفترة. لكن الأنثروبولوجيا حينها هيمن عليها تنافس المدرستين المادية الثقافوية و البنيوية، واللتين ترفضان كلتاهما أي دور مهم للإرادة الإنسانية. بطرقهما المختلفة، تفترض المدرستان ان الثقافة الإنسانية هى إلى حد بعيد نتاج قوى خارج تحكم الوعى الإنساني. من مثل هذا المنظور يصبح ممكناً تصور قوانين شمولية للثقافة والتاريخ، في حين أننى في الفصل الختامي للكتاب عبرت عن تحفظاتي حول تطبيق مثل تلك القوانين على المسألة النوبية، كما فهمت.
يبدو، إذن، ليس هناك "علم مقارن طبيعي للإنسان" واحد، لكن في الواقع علوم عديدة نختار من بينها. ليس فقط أن هناك مدارس متضاربة في الأنثروبولوجيا لكن الأتثروبولوجيا ككل تقدم رؤية مختلفة عن السوسيولوجيا، والاقتصاد، والعلوم السياسية، والسيكولوجيا، والتى يمكن أن يدعى (وفي حالات يفعل) كل منها أنه علم مقارن طبيعي للإنسان
هل يعنى هذا أن المثال العالي الخلدوني غير قادر على الإنجاز، بل ويحتمل أن يكون دعاة ما بعد الحداثة على حق؟ لست مستعداً بعد لمثل هذه المشورة ولا لمثل هذا اليأس. غض النظر عن خلافاتهم، أعتقد أن العلوم الاجتماعية والتاريخية الحديثة ضيقت بصورة واضحة هوة سوء الفهم حول الطبيعة الإنسانية. على الأقل تخلصت من التلميحات طويلة المدى بشأن التفوق والتدني الفطري، والذى هيمن على العديد من وجهات النظر المبكرة حول النوبة. بدءاً من الاعتراف من كوننا جميعاً من نوع الإنسان العاقل، وانه بغض النظر عما هو فطري لدينا جميعاً، فإننا على الأقل في الطريق إلى وضع النوبة إلى حيث تنتمي في الصورة التاريخية.